الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
نعم قوله تعالى: {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} صفة لازمة لإلها لا مقيدة جىء بها للتأكيد، وبناء الحكم المستفاد من جزاء الشرط من الوعيد بالجزاء على قدر ما يستحق تنبيهًا على أن التدين بما لا دليل عليه ممنوع فضلًا عما دل الدليل على خلافه، ويجوز أن يكون اعتراضًا بين الشرط والجزاء جىء به للتأكيد كما في قولك: من أحسن إلى زيد لا أحق منه بالإحسان فالله تعالى مثيبه.ومن الناس من زعم أنه جواب الشرط دون قوله تعالى: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ} وجعله تفريعًا على الجملة وليس بصحيح لأنه يلزم عليه حذف الفاء في جواب الشرط ولا يجوز ذلك كما قال أبو حيان إلا في الشعر.والحساب كناية عن المجازاة كأنه قيل: من يعبد إلهًا مع الله تعالى فالله سبحانه مجاز له على قدر ما يستحقه {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} أي إن الشأن لا يفلح الخ.وقرأ الحسن وقتادة {أَنَّهُ} بالفتح على التعليل أو جعل الحاصل من السبك خبر {حِسَابُهُ} أي حسابه عدم الفلاح، وهذا على ما قال الخفاجي من باب:
وبهذا مع عدم الاحتياج إلى التقدير رجح هذا الوجه على سابقه وتوافق القراءتين عليه في حاصل المعنى، ورجح الأول بأن التوافق عليه أتم، وأصل الكلام على الأخبار فإنما حسابه عند ربه أنه لا يفلح هو فوضع {الكافرون} موضع الضمير لأن {مِنْ يَدُعُّ} في معنى الجمع وكذلك حسابه أنه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا يفلحون.وقرأ الحسن {يُفْلِحُ} بفتح الياء واللام، وما ألطف افتتاح هذه السورة بتقدير فلاح المؤمنين وإيراد عدم فلاح الكافرين في اختتامها، ولا يخفى ما في هذه الجمل من تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه سبحانه بعد ما سلاه بذكر مآل من لا ينجع دعاؤه فيه أمره بما يرمز إلى متاركة مخالفيه فقال جل وعلا: {وَقُل رَّبّ} وقرأ ابن محيصن {رَبّ} بالضم {اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الرحمين} والظاهر أن طلب كل من المغفرة والرحمة على وجه العموم له عليه الصلاة والسلام ولمتبعيه وهو أيضًا أعم من طلب أصل الفعل والمداومة عليه فلا إشكال، وقد يقال في دفعه غير ذلك، وفي تخصيص هذا الدعاء بالذكر ما يدل على أهمية ما فيه، وقد علم صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أن يقول نحوه في صلاته.فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان وجماعة عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» ولقراءة هذه الآيات أعني قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ} [المؤمنون: 115] إلى آخر السورة على المصاب نفع عظيم وكذا المداومة على قراءة بعضها في السفر.أخرج الحكيم الترمذي وابن المنذر وأبو نعيم في الحلية وآخرون عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ في أذن مصاب {أَفَحَسِبْتُمْ} [المؤمنون: 115] حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو أن رجلًا موقنًا قرأ بها على جبل لزال».وأخرج ابن السني وابن منده وأبو نعيم في المعرفة بسند حسن من طريق محمد بن إبراهيم بن الحرث التميمي عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا أمسينا وأصبحنا {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] فقرأناها فغنمنا وسلمنا هذا والله تعالى المسؤول لكل خير. اهـ. .قال القاسمى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} أي: بغير حكمة، حتى أنكرتم البعث: {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} أي: للجزاء: {فَتعالى اللَّهُ} أي تعاظم عما تصفون، لأنه: {الْمَلِكُ الْحَقُّ} أي: المتصرف وحده، الذي قصد بالخلق معرفته وعبادته. والذي لا يترك الجزاء بل يحق الحق: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} أي: العظيم المجيد. وقرئ بالرفع: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} قال ابن جرير: ومن يدع مع المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، معبودًا آخر لا حجة له بما يقول ولا بينة. فإنما حساب عمله السيء عند ربه، وهو موفيه جزائه إذا قدم عليه. فإنه لا ينجح أهل الكفر بالله، عنده، ولا يدركون الخلود والبقاء في النعيم، قال الزمخشري: وقوله: {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} كقوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عِمْرَان: 151]، وهي صفة لازمة، نحو قوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، جيء بها للتوكيد، لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان. ويجوز أن يكون اعتراضًا بين الشرط والجزاء. كقولك: من أحسن إلى زيد- لا أحق بالإحسان منه- فالله مثيبه.قال في الانتصاف: إن كان صفة، فالمقصود بها التهكم بمدعي إله مع الله، كقوله: {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عِمْرَان: 151]، فنفى إنزال السلطان به، وإن لم يكن في نفس الأمر سلطان، لا منزل ولا غير منزل. وقال الرازي: نبه تعالى بالآية، على أن كل ما لا برهان فيه، لا يجوز إثباته، وذلك يوجب صحة النظر وفساد التقليد. انتهى.ثم أمر تعالى نبيه بالابتهال إليه واستغفاره والثناء عليه، بقوله: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} أي: خير من رحم ذا ذنب، فقبل توبته. اهـ..قال الشنقيطي: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)}.الاستفهام في قوله: {أفحسبتم} للانكار، والحسبان هنا معناه: الظن. يعني: أظننتم أنا خلقناكم عبثًا لا لحكمة، وأنكم لا ترجعون إلينا يوم القيامة، فنجازيكم على أعمالكم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا شر، ثم نزَّه جل وعلا نفسه، عن أن يكون خلقهم عبثًا، وأنهم لا يرجعون إليه للحساب والجزاء.وقوله: {فَتعالى الله الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم} أي تعاظم وتقدس، وتنزه عن كل ما لا يليقُ بكماله وجلاله، ومنه خلقكم عبثًا سبحانه وتعالى، عن ذلك علوًا كبيرًا.وما تضمنته هذه الآية من إنكار الظن المذكور جاء موضحًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار} [ص: 27] وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق} [الدخان: 38-39] وقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 36-39] وقوله: سدى: أي مهملًا لا يحاسب ولا يجازي، وهو محل إنكار ظن ذلك في قوله: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] وقوله: {عبثًا} يجوز إعرابه حالًا، لأنه مصدر منكر أي إنما خلقناكم في حال كوننا عابثين، ويجوز أن يعرب مفعولًا من أجله: أي إنما خلقناكم، لأجل العبث لا لحكمة اقتضت خلقنا إياكم، وأعربه بعضهم مفعولًا مطلقًا، وليس بظاهر. قال القرطبي عبثًا: أي مهملين، والعبث في اللغة: اللعب، ويدل على تفسيره في الآية باللعب قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} [الدخان: 38] وقوله: {الملك الحق} قال بعضهم أي الذي يحق له الملك، لأن كل شيء منه وإليه. وقال بعضهم: الملك الحق: الثابت الذي لا يزول ملكه، كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَلَهُ الدين وَاصِبًا} [النحل: 52] وإنما وصف عرشه بالكرم لعظمته وكبر شأنه والظاهر أن قوله: {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} معطوف على قوله: {أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} خلافًا لمن قال: إنه معطوف على قوله: {عبثًا} لأن الأول أظهر منه والعلم عند الله تعالى.{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)}.البرهان: الدليل الذي لا يترك في الحق لبسًا، وقوله: لا برهان له به كقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الحج: 71] الآية. والسلطان: هو الحجة الواضحة وهو بمعنى: البرهان وقوله في هذه الآية الكريمة {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ} قد بين أن حسابه الذي عند ربه، لا فلاح له فيه بقوله بعده {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} وأعظم الكافرين كفرًا هو من يدعو مع الله إلهًا آخر، لا برهان له به، ونفي الفلاح عنه يدل على هلاكه وأنه من أهل النار، وقد حذر الله من دعاء إله معه في آيات كثيرة كقوله: {وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات: 51] وقوله: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ لاَ إله إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] وقوله تعالى: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا} [الإسراء: 22] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا، ولا خلاف بين أهل العلم أن قوله هنا: {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} لا مفهوم مخالفة له، فلا يصح لأحد أن يقول: أما من عبد معه إلهًا آخر له برهان به فلا مانع من ذلك، لاستحالة وجود برهان على عبادة إله آخر معه، بل البراهين القطعية المتواترة، دالة على أنه هو المعبود وحده جل وعلا ولا يمكن أن يوجد دليل على عبادة غيره ألبتة. وقد تقرر في فن الأصول أن من موانع اعبتار مفهوم المخالفة، كون تخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع فيرد النص ذاكرًا لوصف الموافق للواقع ليطبق عليه الحكم، فتخصيصه بالذكر إذًا ليس لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق، بل لتخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع.ومن أمثلته في القرآن هذه الآية لأن قوله: {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} وصف مطابق للواقع، لأنهم يدعون معه غيره بلا برهان، فذكر الوصف لموافقته الواقع، لا لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق.ومن أمثلته في القرآن أيضًا قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المؤمنين} [آل عمران: 28] لأنه نزل في قوم والوا اليهود دون المؤمنين، فقوله: {مِن دُونِ المؤمنين} ذكر لموافقته للواقع لا لإخراج المفهوم، عن حكم المنطوق ومعلوم أن اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، ممنوع على كل حال، وإلى هذا أشار في مراقي السعود في ذكره موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله:وقوله تعالى في خاتمة هذه السورة الكريمة {وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الراحمين} فيه الدليل على أَن ذلك الفريق، الذين كانوا يقولون: ربنا آمنا، فاغفر لنا، وارحمنا، وأنت خير الراحمين. موفقون في دعائهم ذلك ولذا أثنى الله عليهم به، وأمر به نبيه صلى الله عليه وسلم لتقتدي به أمته في ذلك، ومعمول اغفر وارحم حذف هنا، لدلالة ما تقدم عليه في قوله: {فاغفر لَنَا وارحمنا} [المؤمنون: 109] والمغفرة: ستر الذنوب بعفو الله وحلمه حتى لا يظهر لها أثر يتضرر به صاحبها، والرحمة صفة الله التي اشتق لنفسه منها اسمه الرحمن، واسمه الرحيم: وهي صفة تظهر آثارها في خلقه الذين يرحمهم، وصيغة التفضيل في قوله: {وَأنتَ خَيْرُ الراحمين} لأن المخلوقين قد يرحم بعضهم بعضًا، ولا شك أن رحمة الله تخالف رحمة خلقه، كمخالفة ذاته وسائر صفاته لذواتهم، وصفاتهم كما أوضحناه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} [الأعراف: 54] والعلم عند الله تعالى. اهـ.
|